تؤكد بطون التاريخ ووثائقه وأحداثه حقائق أخرى، غير ما يتداوله العامة وما هو شائع لدى البعض حول
عروبة المسيحيين وانتماء بعض العرب للديانة المسيحية، ومن أهم هذه الحقائق:
1 ـ عرف العرب الديانة المسيحية (والتي سموها النصرانية. لسان العرب تاج العروس) منذ سنوات الأولى
وآمن بعضهم بها كما آمن غيرهم، ونهلوا من ثقافتها الروحية، وشاركوا في مجمعاتها وحراكها ومناقشاتها
اللاهوتية، وقادوا تيارات انشقاقية على التيارات المسيحية الأقرب للسلطة البيزنطية، وتبنوا مواقف لاهوتية
مختلفة من طبيعة المسيح، وكانوا من أهم أصحاب الطبيعة الواحدة (اليعاقبة) كالغساسنة، وأصبحاب الطبيعتين
(النساطرة) كالمناذرة، وقلة منهم كانوا من الملكانيين المقربين من روما، ولم يكن انشقاقهم يخلو من أسباب
سياسية، حيث كانت بلاد الشام تحت الحكم البيزنطي. ويؤكد الوجود العربي في قلب الديانة المسيحية ما جاء
في أعمال الرسل "كريتيون وعرب نسمعهم يتكلمون بألسنتنا بعظائم الله" (أعمال الرسل 2/11) وأن "في
يوم العنصرة كان يوجد في مدينة أورشليم عرب" (أعمال الرسل 2/1)، وفي الوقت نفسه تؤكد المصادر
التاريخية أن الأساقفة العرب شاركوا في المجمعات المسيحية الرئيسة الثلاثة (نيقيا 325م، أفسس 430م،
خلقيدونية 451م) وأنهم انشقوا أكثر من مرة ورفضوا في الغالب الأعم الهيمنة البيزنطية وتعاليم كنيستها.
ومن المهم أن نشير الى التباس يقع فيه أحياناً بعض المؤرخين ومعظم الناس، وهو أن الأساقفة العرب الذين
شاركوا في هذه المجمعات، كانوا يأخذون أسماء دينية، إضافة الى أسمائهم الأصلية العربية، ما يجعل الأمر
ملتبساً، إذ كيف يكون عربياً في ذلك الوقت من كان اسمه "ثيودوروس أو يوشاسيوس" مثلاً، ويفوت البعض
أن هذا الاسم هو الاسم الديني ولا علاقة له بالاسم العربي الحقيقي للأسقف.
كنيسة نجران:
2 ـ سكن العرب سورية قبل الإسلام بمدة طويلة منذ القرن الثاني الميلادي (رينيه داسو)، ومن القبائل
العربية في سورية وبين النهرين: تنوخ (قنسرين) التي تنصرت ثم تغلبت عليها سليح وتنصرت أيضاً
(المسعودي). ومن القبائل النصرانية أيضاً بكر (ديار بكر غرب دجلة) وربيعة (من الموصل الى رأس
العين) ومضر (شرقي الفرات، حران والرقة) (ياقوت معجم البلدان 4/494)، ومنها تغلب (لو تباطأ
الإسلام لأكلت تغلب العرب) وكانت تنتشر حتى في عمق ا لجزيرة (استبدل الخليفة عمر عليهم الصدقة
بالجزية لأهمية بني تغلب) وبنوكلب (غرب الفرات) وتميم (حران) وبنو سليم (الرها) وكنانة (حماه) وإياد
(السواد) وغيرهم (البلاذري، فتوح البلدان 1/150) وربيعة ولخم وبهراء وجذام (السيرة الحلبية 3/95).
وفي الإجمال كان عرب سورية يدينون بالنصرانية (دوزي) وسكن الغساسنة "جنوب سورية" والمناذرة
"جنوب العراق"، وأسسوا ممالك مسيحية في القرن السادس. وفي الجزيرة العربية كانت المسيحية منتشرة
جزئياً أو كلياً بين قبائل "طيء وتغلب وذبيان وإياد وغيرها"، وكان القسس والرهبان يردون أسواق العرب،
ويعظون ويبشرون، ويذكرون بالبعث والحساب، والجنة والنار، وقد ورد في القرآن الكريم كثير من الآيات
تحكي أقوالهم وتفند مذاهبهم ما يدل على انتشار هذه التعاليم بينهم (أحمد أمين/فجر الإسلام، 27). وفي
الإجمال انتشرت النصرانية بين قبائل نجد والحجاز، فكان نصارى في بني شيبان ومنهم النابغة الشيباني،
وكانوا في إياد ومنهم قس بن ساعدة الأيادي؛ ويقال إنه كان أسقف نجران، وهو أول من قال: "أما بعد.."
وأول من قال كذلك: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، وكان خطيب العرب قال فيه الرسول
(ص) "يحشر أمة وحده" وإني "لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة واحدة" (الأغاني، وجواد علي تاريخ
العرب 6/466). وتنصر من العرب قوم من قريش من بني أسد بن عبد العزي (ابن هشام السيرة
1/243)، ومنهم ورقة بن نوفل بن أسد: وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل
(موجز ابن هشام 48 واليعقوبي 1/298 وابن الأثير 2/238)، ومن بني ثقيف أمية بن أبي السلط، وهو
أول من قال "باسمك اللهم" (الأغاني 4/121 ولويس شيخو 120)، ومن طيء عدي بن حاتم الطائي
(قابل الرسول وصليبه على صدره).
انتشرت النصرانية في نجران (كنيسة نجران التي سموها كعبة نجران) وكنيسة القليس في صنعاء وكنائس في
مأرب وظفار (قصة أصحاب الأخدود الواردة في القرآن الكريم الذين أحرقهم ذو نواس: قتل أصحاب
الأخدود..)، وكانت الأديرة تمتد على طول طريق دمشق. مكة، والعراق ـ مكة، والعراق ـ ظفار، وكان
الدير في ذلك الوقت مكان استراحة على طريق التجارة ومركز دعوة دينية وثقافية، أي أنه كان مدرسة
متعددة المهمات. ويقول البلاذري عن هذه الأديرة: "كان أهل ثلاث بيوتات يتبارون في البيع وربها! أهل
المنذر في الحيرة، وغسان في الشام، وبنو الحارث بن كعب في نجران، وبنوا ديارتهم (أديرتهم) في المواضع
النزهة كثيرة الشجر والرياض والغدران، وجعلوا في حيطانها الفسافس وفي سقوفها الذهب والصور". وعدّد
ياقوت في (معجم البلدان ج2) عشرات الأديرة في مناطق سكنى القبائل العربية.
أما بالنسبة الى الأقباط فقد كانت علاقاتهم مع العرب قديمة العهد "فقد كانت مع الأنباط الذين تكاثروا على
العدوة الغربية من البحر الأحمر.. وكانت لهم جمال ينقلون عليها التجارة بين البحر والنيل" (أبو سيف
يوسف الأقباط والقومية العربية 49)، كما كانت مع العرب التدمريين والغساسنة وإن بشكل أقل (فيليب حتى
تاريخ سورية ولبنان 103-107)، وقد طوع الأقباط المسيحية وطبعوها بطابعهم القومي حسب رأي
المرحوم جمال حمدان.